تقدر أعداد الأرامل في العالم بما يزيد عن 258 مليون أرملة حسب بيانات الأمم المتحدة، أما عن عددهن في العراق فتتضارب الأرقام ، إذ لا وجود لبيانات واضحة ودقيقة لعدد الأرامل في العراق الذي شهد حروبا عديدة واقتتالا طائفيا وعمليات إرهابية وممارسات عنيفة ، جميعها خلفت موجات من الأرامل لم تحظ بأهتمام على أرض الواقع فيما خط الحبر مبادئ وقوانين وستراتيجيات يحتضنها الورق.
” عدم ترك أي أحد خلف الركب” مبدأ مركزي اعتمدته الأمم المتحدة للحد من التمييز والاقصاء بالقضاء على الجذور التي تخلق الفارق بين الأفراد في البلد الواحد وحتى في الأسرة الواحدة. أما احكام المادة (14) من الدستور العراقي الصادر عام (2005) نصت على أنه : (العراقيون متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس.)، وكذلك احكام المادة (16) من الدستور التي تقول بأن تكافؤ الفرص مكفول لجميع العراقيين، والمادة (20) منه القائلة: (للمواطنين رجالا ونساء حق المشاركة في الشؤون العامة.)، والنص على منع كل أشكال العنف والتعسف في الأسرة والمدرسة والمجتمع، المادة 29 / رابعا.
وبالرغم من تحديد يوم 23 من حزيران في كل عام يوما عالميا لإسماع صوت الأرامل إلا أن اغلب الآذان لاتزال صماء لا يبلغها أنين القابعات تحت قسوة الأعراف والتقاليد التي تفرض عليهن موتا من نوع أخر.
فكانت لنا محاولة لتتبع معاناتهن معالعادات والتقاليد.
كنت أفضل أن أبقى أرملة :
أم جعفر تبلغ من العمر ستة وأربعين عاما ، أم لخمسة أبناء لم تكمل تعليمها بسبب التزويج المبكر وليس لها مهنة تساعدها على إعالة نفسها وأبنائها تروي قائلة: “توفي زوجي قبل ستة عشر عاما إثر حادث سير وكنت حينها في الثلاثين من عمري وما أن انتهت العدة الشرعية حتى بدأ أهل زوجي بمحاصرتي بين خيارين ، أما أن اترك أبنائي وداري وأذهب إلى بيت أهلي ، واما أن أتزوج أخ زوجي الذي كان بعمر السادسة عشر بحجة المحافظة على الأطفال وإرثهم من أبيهم، أما أهلي فهم أيضا كان لهم شروطلا تقل قسوة عن الخيارات السابقة ، فقد اشترطوا لاستقبالي أن أترك الأولاد فهم غير معنين بتربية أبناء غيرهم على حد قولهم ، وان أبقى مع أهلي فترة وجيزة حتى يتم تزويجي بشخص يختارونه، فلم يكن أمامي غير الاستسلام لرغبة أهل زوجي فهذا يضمن لي بقائي مع أطفالي”.
بعد تنهيدة عميقة أكملت أم جعفر حديثها: “عانيت من هذا الزواج الامرين وكذلك أبنائي فقد كان عمهم الذي أرغمت على الارتباط به شخصا طائشا وأنانيا وكان يعنفني وأبنائي ويسيء معاملتي وانتهى به المطاف أن سلبنا مالنا وارتبط بأخرى ليعيش حياته ويعوض ما ضاع من عمره برفقتي حسب قوله” وبرفقة فيض من الدموع ختمت أم جعفر حديثها قائلة: ” ليتني بقيت أرملة”
يقول الشيخ رعد ناصر (أحد شيوخ عشائر العطب في البصرة): ” إن الأعراف السائدة غير منصفة للمرأة في أغلب الاحيان، وهذه الأعراف مترسخة عند أبناء العشائر منذ مئات السنين رغم أنها مجحفة”.
وأضاف: ” في الواقع المنظور لا اعتقد أن هناك تغييرا فعليا سيطرأ على واقع المرأة ومعاناتها من التقاليد الظالمة ” وختم حديثه بالقول: ” هناك توجه عند بعض شيوخ العشائر للحد من هذه العادات ولي أمل أن نغير فيها في المستقبل”.
أحكمت التقاليد قبضتها فحرمتني الحياة :
لاتقل معاناة إيمان في تجربتها مع الترمل عن معاناة أم جعفر وإن اختلف المضمون فالإطار الذي يجمع تلك المعاناة عنوانه واحد ،العادات والتقاليد.
إيمان سيدة في الثامنة والثلاثين من عمرها أم لثلاثة أبناء من محافظة ذي قار عاشت حرمانا كبيرا وشهدت حياتها الكثير من القسوة فقد ترملت وهي بعمر الثامنة والعشرين تسكن منطقة ريفية تشتد فيها قبضة العادات والتقاليد ، تقول إيمان: ” لقد فرض عليّ أن أبقى رهينة الجدران وان أعيش على تلقي الإعانة من الاخرين التي لم تكن كافية لتوفير أبسط مقومات الحياة لأبنائي ورغم إجادتي لعدد من المهن التي كان من الممكن أن تضمن لي واردا يغنيني عن الحاجة للأخرين ، إلا أن العادات لها رأي آخر فلم يكن مسموحا لي بالعمل أو الخروج من المنزل إلا للضرورة فقط ، ويجب أن اكون برفقة أحد من العائلة، وبعد أن بلغت بناتي مرحلة الصبا فرض عليهن ذات القيود ، ويساورني القلق الدائم على مصيرهن في ظل الأعراف السائدة ” ، وختمت حديثها قائلة: ” لم افكر بالزواج مرة أخرى خوفا أن أفقد أطفالي فإن الأعراف تحتم عليّ تركهم كي أتزوج وهذا ثمن غال جدا لا أقدر عليه “. وبعيون دامعة انهت حديثها قائلة: ” المهم أن تعيش التقاليد لابأس أن اموت أنا وأمثالي”.
للإسلام رأي مخالف :
هذه الأعراف السائدة التي غالبا ماتكون التضحية بالنساء قربانا المحافظة عليها وديمومتها هي مخافة لتعاليم الدين الإسلامي ، إذ يقول الشيخ ايوب البصري وهو شيخ دارس في حوزة النجف بمستوى البحث الخارج: ” ليس هناك في الشريعة ما يفرض على الارملة الامتناع عن الخروج من المنزل أو الذهاب إلى عملها إذا كانت موظفة أو صاحبة مهنة وحتى في فترة العدة الشرعية فأن هذا الأمر مباح” .
وقال مضيفا: ” أما الذي تعارف عليه الناس من تقييد حرية الارملة فلا أصل شرعي له ولا عقلي حتى وهو من الامور التي تشكل ظلما للمرأة”.
وعن رأي الشريعة الإسلامية في مسألة حضانة الأطفال يقول الشيخ البصري: ” إذا مات الاب فأن الحضانة تؤول إلى الام ولا يجوز لاحد أخذ الطفل من أمه سواء تزوجت أم لم تتزوج” .
وختم حديثه قائلا: ” إجبار الارملة على الارتباط أو إجبار الام على ترك أطفالها إذا رغبت بالزواج هو اضطهاد وحرام يرفضه الإسلام”.
حياة بطعم الموت :
طيبة سيدة تبلغ من العمر 32 عاما من البصرة حاصلة على شهادة الإعدادية وأم لطفلين توفي زوجها منذ 4 سنوات ، وعن تجربتها تقول طيبة: ” أنا اموت كل يوم منذ مات زوجي فبعد وفاته رجعت برفقة أطفالي إلى أهلي الذين فرضوا عليّ أن لا أخطو خطوة واحدة خارج البيت وبعد أن تدهورت صحتي النفسية استعنت بصديقة لي وبدورها مكنتني من التواصل مع معالجة نفسية عبر الهاتف والتي اخبرتني اني أعاني اكتئابا ما بعد الصدمة واقترحت أن اخضع للعلاج، الذي حصل أن اخي اطلع على محادثة لي مع الاخصائية فضربني ونادى إخوتي وأمي، وبخني الجميع واتهموني بالاساءة إلى سمعة العائلة لمجرد تفكيري بالحصول على علاج نفسي ، ومن يومها أنا اعيش أيامي مكررة وحتى أني أتساءل أحيانا هل أنا حية أم ميتة”؟؟؟
اكدت نادية عبد الحسين (باحثة اجتماعية، رئيس أبحاث) “أن الارملة تعاني من قلق وتوتر، لانها تواجه أعباء الحياة منفردة ونظرة المجتمع التي تحاصرها وتحرم عليها حتى الاهتمام بالنفس والمحاسبة المشددة من الاهل وتدخل الجميع في شؤونها ومصادرة حقها في اتخاذ أي قرار يتعلق بحياتها أو حياة أبنائها، ومن خلال تعاملي مع الأرامل التمست أن لديهن الكثير من المعاناة النفسية وهناك ظلم كبير حتى من أقرب الناس لهن فكيف ببقية المجتمع ، فضلا عن الشعور بالوحدة والاحتياج العاطفي وهذه الاحتياجات غالبا ما يتم إهمالها وفي بعض الاحيان ينظر اليها على أنها خطيئة رغم أنها حق مشروع “.
وأضافت: ” أن الدعم النفسي المقدم للارملة هو دعم محدود سواء أكان من دائرة المرأة أم من منظمات المجتمع المدني الدولية والمحلية ، ولا يغطي الاحتياج الفعلي لاننا نشهد أضرارا نفسية غير سهلة بعضها قد يقود إلى الانتحار” .
وأضافت قائلة: “الدعم النفسي يحتاج إلى سنوات من العمل وعلى مستويات واسعة كي يتم توفير الدعم الذي تحتاجه الأرامل فتمكين المرأة لا يقتصر على تقديم المعونات الاقتصادية لان أغلبهن محطمات نفسيا فمجرد فقد الزوج أمر يحتاج إلى معالجة فكيف بما يتبعه من الولوج إلى معترك الحياة ومواجهة ظروفها ومتطلباتها “.
وصرحت السيدة الاء ناجي (مديرة قسم تمكين المرأة في محافظة ذي قار): ” أن في محافظة ذي قار 19528 ارملة فقط من المسجلات في شبكة الرعاية الاجتماعية وليس العدد الكامل في المحافظة ” وبينت السيدة الاء أن: “هناك اهتماما من قبل المؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني لتطوير واقع الأرامل من خلال إقامة الورش التدريبية بغرض التوعية وتغيير بعض العادات والتقاليد السائدة وتقديم الدعم النفسي والقانوني للنساء المعنفات من الأرامل”.
أما السيدة شميران مروكل اوديشو (سكرتيرة رابطة المرأة) فقد بينت أن: ” هناك حاجة كبيرة لتمكين الأرامل سواء من تعزيز مكانتهن ودورهن في العاىلة والمجتمع وتشير التقارير الدولية إلى أن ملايين الأرامل في العالم وليس فقط في العراق يعانون من الفقر والعنف والتمييز بحكم الأعراف وحتى القوانين التي لا تنصفهم كامهات حاضنات لأطفال دون آباء ومتعرضات إلى التهميش والعزلة في المجتمع “
وأضافت: ” أما الأرامل الشابات فانهن يواجهن تحديات خاصة ، فهن أمهات صغيرات معيلات لأسر ورعاية أطفال دون توفر دعم اقتصادي يمكنها من ذلك. واكيد هذه الشريحة الكبيرة من النساء تحتاج إلى التمكين ،وهذا من أهم واجبات المؤسسات الحكومية المتخصصة ومطلوب منها وضع الخطط والاستراتيجيات تمكن الأرملة لتعزيز وضعها وتكون قادرة على إنجاز مهمتها الإنسانية والاجتماعية وتغادر العزلة إلى المجتمع الواسع لتكون فردا منتجا”.
مئات الألوف من الارامل بحاجة الى الرعاية والدعم والتدريب على التعامل مع ظروفهن وادارة حياتهن وحياة ابنائهن بمهارة تغنيهن عن الاعتماد على الاخرين وهذا يحتاج الى تظافر جهود الحكومة والمجتمع والمنظمات الدولية الراعية لحقوق الانسان ولتخطي عقبة الممانعة من قبل الاهل هو اشراك افراد العائلة وتشجيع حضورهم هذه التدريبات الامر الذي يصحح مسار العلاقات الاجتماعية ويحولها بشكل تدريجي من علاقات سلطوية الى علاقات تشاركية وتعاونية وتوفير عيادات متخصصة بتقديم الدعم النفسي المجاني لكل الارامل وبالقدر الذي يكفي لتخطي محنتهن وتوفير البيئة الداعمة التي تقدم العون والمشورة والتوعية الاجتماعية والقانونية وغيرها من اشكال الدعم المعنوي والمادي.
انتج هذا العمل بدعم من MICT