تقارير ومطولات

السياسة المعاصرة بين السيد السيستاني والمنهج الفقهي الكلاسيكي.

وكالة اخر الاخبار / د.صفاء متعب الخزاعي.

لايخفى على احد الازمة التي يعيشها الفكر الفقهي المعاصر، والتراجع الرهيب في ظل ديناميكية الحياة وسرعة ايقاعها، التي احرجت الفقهاء المعاصرين من تقديم رؤية حقيقية تقنع وجدان العالم الاسلامي في التمسك بالمفاهيم الفكرية الفقهية بصورة تكون بديلة عن الفكر الغربي وتتماهى مع التطورات في الحياة وتعقيداتها السياسية والاقتصادية والقانونية والاجتماعية والفلسفية والثقافية.
ومن اللافت إن الكثير من الفقهاء قد ادركوا هذه الازمة التي يعاني منها المنهج الفقهي، وموضوع الثابت والمتغير في الاسلام:
فهذا السيد محمد باقر الصدر في اقتصاديا قال ( ضرورة الخروج من الفقه الفردي الى الفقه الذي يأخذ البُعد الاجتماعي وحركة المجتمع والتوسع في شمولية الفقه….) وكذلك السيد الخميني في كتابه الحكومة الإسلامية الذي كان اكثر صراحة عندما قال : ( ان الاجتهاد في الحوازت العلمية على الرغم من اهميته غير كافي في الوقت المعاصر وحدود الاجتهاد مقتصرة على حركة الفرد لا المجتمع ..ويضيف.. نحن اكتفينا باليسير من الاحكام خلفاً من سلف)، وايصاً الشيخ مطهري في كتابه الاسلام ومتطلبات العصر قال: ( إن الحياة في تحول وتبدل وتغير في وقائعه ومن ثم تشيخ وتموت، فهل الدين كذلك؟ وهل للدين مرحلة زمنية؟ ام لابد ان يستمر ؟ كيف يمكن الملائمة بين تغير وتبدل وقائع الحياة وثبات الدين؟ ) وغيرهم ممن شخصّوا هذه المشكلة كمحمد مهدي شمس الدين ومحمد جواد مغنية والسبحاني.

وهناك جملة من الاسباب التي ادت الى نشوء وتفاقم ازمة تراجع المنهج الفقهي المعاصر، والتي يمكن ان نستعرضها بعد استقرائنا الحثيث لتفسير الفقهاء والمفكرين لهذه الازمة وبواعث استمرارها. و الاسباب هي:

اولا: المنهج الارسطي في الاستنباط: بعدما كان دخول المنطق الارسطي في عملية الاستنباط الفقهي قبل قرون عاملاً مشرقاً في تطور الفكر الفقهي، اضحى يشكل عقبة كؤود امام تطوره، لأن الاستنباط القائم على المنطق الارسطي استنباط قائم على المجردات والكليات الذهنية وهو ينطلق من الذهن ويرجع له دون ان ينطلق من الواقع أو يأخذه بنظر الاعتبار، مما سبّب لنا انفصال الفتوى عن الواقع وعدم تشخيصها له واضحى دور اغلب الفقهاء استنباط احكام شرعية كلية وعلى المكلف يشخص تطبيقها بالواقع. وقد ادرك هذه المشكلة السيد محمد باقر الصدر لذلك عمد على التخفيف من هيمنة المنطق الارسطي بالاستنباط من خلال احياء نظرية الاستقراء وحساب الاحتمالات في عملية الاستنباط بكتابه المشهور كتابه الاسس المنطقية للاستقراء.

ثانيا: البعد السياسي والاجتماعي: إن ابتعاد الفقهاء عن الواقع السياسي والاجتماعي بسبب القهر والخوف أو بسبب الغيبة للامام الثاني عشر عليه السلام جعل ذهنية الاستنباط لديهم ذهنية فردية تنظر للواقع برؤية فردية مقتصرة على بيان الموقف الشرعي للمكلف فقط، دون ان ياخذوا بنظر الاعتبار الرؤية الاجتماعية للاجتهاد ومحوريته في الفتوى وقد اشار لهذا السبب السيد محمد باقر الصدر التي من افرازاته نظرية منطقة الفراغ التشريعي والسيد الخميني في دور الزمانوالمكانفي تغير موضوعات الاحكام والاستنباط.

ثالثا: مشكلة التطبيق: ان الاعتياد على الطريقة المؤسسة قبل مئات السنين التي اختزلت وظيفة المجتهد بالتنظير العلمي المحض قد جعل العقل الفقهي الكلاسيكي غير مصيبٍ في كثير من الأحيان في فهم الواقع على الرغم من وضع نظريات فقهية يعتقد انها منبثقة من الرؤية الاجتماعية العامة والمعاصرة، إلا ان هذه النظريات وبمجرد اصطدامها بالواقع وعوامله الاجتماعية والسياسية والثقافية ووجدانه المعاصر كشفت عن ثغرات كثيرة فيها وما تطبيقها في بعض الدول سياسياً الا شاهداً واضحاً على إنها لم يكتب لها النجاح بل اردت عكساً على الدين ككل وعلى رفض المنهج الفقهي الذي يُعتقد أنه اجتماعي تجديدي.

رابعاً: علاقة الفقيه بالشد والجذب مع السلطان: إن علاقة الفقيه مع السلطان اما علاقة جذب كما في الفقه السلطاني وفقهاء البلاط كما في بعض الدول او علاقة شد وخوف وتقية لدى البعض الاخر كما كان في العراق، وهذه العلاقة قد اثرت على المنهج الفقهي وجعلت الفقيه يبتعد عن استعراض وبحث الكثير من الموضوعات الاجتماعية التي تمس نظام الحكم بطريق مباشر او غير مباشر كنظرية السياسة الشرعية ونطاق الحسبة ومبدأ حاكمية الاسلام وغيرها ومقارنتها بالنظريات السياسية للدولة الحديثة قي الغرب، بل لم يوجد اي بحث يطرح في بيان الموقف الشرعي من الدولة الحديثة كمسألة ابتلائية مستحدثة سوى بعض الآراء المتفرقة في تقريرات البحث الخارج.
بحيث ادى التسالم على الابتعاد عن هذه الموضوعات الى افتقار العقل الفقهي الى الرؤية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية المعاصرة وعدم تماهيها مع المقاصد الدينية والوجدان العالمي والإسلامي.

وقد نتج عن هذا السبب آثار سلبية كبيرة لاسيما في العراق بعد عام ٢٠٠٣ والتي ولدت اراء الفقهاء السياسية فيه وفي المنطقة مشاكل كبيرة واصطدمت بالواقع الذي نعيشه كما في تطبيق نظرية مجهول المالك وولاية الحسبة ومشكلة التقليد العابر للحدود وتعارضه مع المواطنة الحديثة وغيرها من الاحكام.

وفي ظل هذه الازمة التي اشتدت دون وضع حلول سوى بعض النظريات، التي نراها لو لم تخرج الى الواقع وتطبق لكان افضل بكثير بسبب موتها بولادتها، إذ أرتدت ارتداداً وخيماً على المجتمع التي افرزت شعور بالازدراء الاجتماعي الكبير من المنظومة الفقهية ككل.

ففي ظل كل ذلك يخرج لنا من رحم هذا المنهج الفقهي عقلاً نيّراً وطرحاً متيناً ورؤية ثاقبة للواقع متمثلة بعقلية السيد السيستاني الذي اعتبره بالضد مما تسالم عليه المنهج الفقهي الكلاسيكي ببعده الفردي والاجتماعي.

فهو صرّح بصورة لاتقبل الشك والتأؤيل وأكّد في بياناته في أكثر من موطن إن الفقه هو فرديٌ بل شخصيٌ متخصص، وقطع دابر التفكير بالتجديد وتحميل الفقه ما ليس فيه بدواعي اجتماعية أو اقتصادية مخالفة للوجدان العالمي والرؤية المعاصرة للحياة وغيرها، وما السياسة وتقلبات الحياة إلا من مختصات المجتمع وادارتها تكون بارادته ورؤاه المحكومة بالزمان والمكان.

ولاثبات مدّعانا على ماتقدم فلنسقط المواقف المنبثقة من السير الفقهي للسيد السيستاتي على اسباب جمود الفقه الكلاسيكي ببعده الفردي والاجتماعي ومدى خضوع آراءه لهذا المنهج ومُقيداته.

فنرى إن العقلية التي اصدرت آراء حكيمة كتلك المتعلقة بحقوق الانسان وتحريم مخالفة التعليمات والقوانين المعاصرة التي تؤدي لحفظ النظام، يجعلنا نجزم بعدم اتباع المنهج الارسطي الكلاسيكي في تكييفه المنفصل عن الواقع، بل نجزم إن البعد الواقعي وحركة الحياة المعقّدة مأخوذة بدقة في نظر الاعتبار عند الاستنباط.

أما البعد السياسي والاجتماعي فأن المقطع من احدى بياناته في خطبة الجمعة بتأريخ (١٥/١١/٢٠١٩) التي نص فيها ” ان الحكومة في غير النظم الاستبدادية وما ماثلها إنما تأخذ شرعيتها من الشعب، وليس هناك من يمنحها الشرعية غيره، وتتمثل ارادة الشعب بالاقتراع السري العام إذا اجريَ بصورة نزيهة”. فهذا النص يكفي للقول بأن ناطقه يتمتع برؤية سياسية واجتماعية معاصرة مقنعة للوجدان العالمي والإسلامي المعاصر وهي توظيف حي للتجديد الفقهي وخروج من بودقة الفقه السياسي الكلاسيكي ببعده الفردي والاجتماعي الذي يدور حول الحكم للفقيه وباسم الاله القائم على نظرية التفويض الإلهي الموجودة بالعصور القديمة والتي لاتتقبلها عقلية الانسان المعاصر.

أما مسألة التطبيق فعلى الرغم من تبني السيد السيستاني نظرية ولاية الحسبة لا ولاية الفقيه التي تسمح له بالتدخل في بعض المصالح العامة، إلا انه سلك افضل الطرق التي تبعده عن مقامرات تطبيق النظريات الفقهية وما تنتجه من مشاكل عند التطبيق، إذ ماتبناه من احترام القوانين ونظم الدولة المعاصرة المنبثقة من الشعب، واعتبر ذلك منهجاً فقهياً له ورتب عليه آثار شرعية كحرمة مال الدولة ومخالفة القوانين وحرمة الاعتداء على عقائد الآخرين و التقليل منها وحكم بالايمان الواقعي الحقيقي للمخالف لا ظاهري فقط، وقد جعل ما سلكه طريقاً ذكيا جداً وهو استعمال الادوات المعاصرة في ادارة السلوك البشري كالدولة المدنية ونظام الحكم الديمقراطي كجزء من المنظومة الفقهية الامامية.

وأخيراً إن علاقة الشد المعروفة للسيد السيستاني مع النظام السابق لم تؤثر على تصوره ورؤاه السياسية والاجتماعية وفهمه للموضوعات الحديثة لهذه الافكار بصورة عميقة بخلاف السطحية الغالبة في فهم هذه المفاهيم عند غيره والمنبثقة من المنهج الفقهي الكلاسيكي.

والخلاصة: هي دعوة للاسلاميين وللمدنيين والعلمانيين والشيوعيين على حد سواء بل حتى المنابر الاعلامية لمقلديه انفسهم الذي الكثير منهم لايعرفون منهجه، أن يتبنوا أو يوظفوا منهج السيد السيستاني الفقهي في رؤيته للحياة المعاصرة ، فأنها من أهم العوامل التي تحقق الامن الاجتماعي والتعايش السلمي وتقديس فكرة الدولة الحديثة وقوانينها. والالفات إن منهجه قائم على الاعتراف الصريح بمحدودية سلطة الفقيه والفقه وأحدية ميدانه المتخصص بالعبادات والمعاملات الشرعية الفردية، وماخلا هو للامة وولايتها على نفسها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى